حقيقة القيامة
"لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات؟ انه ليس ههنا، بل قام" (لوقا 24: 5). هكذا بشرّ الملائكة النسوة بقيامة السيد. هذا الحدث التاريخي يشكل الركيزة الأساسية للإيمان المسيحي كله، لذلك يقول الرسول بولس: "وإن كان المسيح لم يقُم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم ايضا باطل" (1 كورنثوس 15: 14). ارتباط الإيمان بالقيامة واضح في هذا الكلام.
حدث القيامة وقع فعلا في التاريخ، لقد "أظهر (المسيح) لهم (الرسل) نفسه حيّا بعد آلامه بكثير من الأدلّة، اذ تراءى لهم مدّة أربعين يوما، وكلّمهم على ملكوت الله" (أعمال 1: 3). من هنا استمد الرسل القوة ليكرزوا بالمسيح قائما من بين الأموات، لذلك نرى بطرس في خطبته الاولى، يوم العنصرة، يتجرأ قائلا لليهود: "ان يسوع الناصري، ذاك الرجل الذي أيّده الله لديكم بما جرى عن يده بينكم من المعجزات والأعاجيب والآيات، كما انتم تعلمون، ذاك الرجل الذي أُسلم بقضاء الله وعِلْمِه السابق فقتلتموه اذ علّقتموه على خشبة بأيدي الكافرين، قد أقامه الله وأنقذه من أهوال الموت" (أعمال 2: 22-24). في نهاية الخطبة يطلب بطرس من الجموع أن يتوبوا ويعتمدوا باسم يسوع المسيح لمغفرة الخطايا لينالوا "موهبة الروح القدس" (الآية 38). فقيامة المسيح هي ركيزة البشارة الرسولية الاولى.
وفي خطبته الثالثة يكرر الرسول أغلب ما قال في الخطبة الاولى، ويضيف: "فلا خلاص بأحد غيره، لأنه ما من اسم آخر تحت السماء أُطلق على احد الناس ننال به الخلاص" (أعمال 4: 12). بطرس هنا يؤكد على ارتباط خلاص الانسان، حصرا، بالايمان بالمسيح المصلوب والقائم من بين الأموات.
اما بولس فيشهد قائلا: "سلّمت اليكم قبل كل شيء ما تسلمته انا ايضا، وهو ان المسيح مات من اجل خطايانا كما ورد في الكتب" (1كورنثوس 15: 3-4). ويتابع بولس شهادته المبنية على أسس متينة، ذلك أنه يقول: "وانه تراءى لصخر فالاثني عشر، ثم تراءى لأكثر من خمسمائة أخ معا لا يزال معظمهم حيّا وبعضهم ماتوا، ثم تراءى ليعقوب، ثم لجميع الرسل، حتى تراءى آخر الأمر لي أيضا انا السقط" (الآيات 5-8). هذه الشهادات العينية مهمة جدا لتأكيد تاريخية الحدث.
لو لم يكن حدث القيامة حقيقيا، لما ربط الرسل بين الايمان به والخلاص، فها الرسول الالهي يقول: "فإذا شهدت بفمك ان يسوع رب، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من بين الأموات، نلت الخلاص" (رومية 10: 9)، ويقول ايضا: "فأمّا ونحن نؤمن بأن يسوع قد مات ثم قام، فكذلك سينقل الله بيسوع ومعه اولئك الذين ماتوا" (1 تسالونيكي 4: 14). شرط الخلاص هو الايمان بأن الله أقام يسوع من بين الأموات والشهادة له.
تؤكد الأناجيل أن يسوع تراءى للأحد عشر والنسوة وتلميذي عمواس. آمن الرسل بالقيامة فلم يخافوا المجاهرة بها، فنراهم، بعد ان كانوا مختبئين "خوفا من اليهود" (يوحنا 20: 19)، يكرزون أمام الآلاف منهم بالمسيح "الذي صلبتموه أنتم فأقامه الله من بين الأموات" (اعمال 4: 10). هذا الخوف لم يكن ليختفي لو لم تكن قيامة السيد قد حصلت فعلا، لدرجة انها دفعت بهم الى الاستشهاد وتقديم أجسادهم ذبيحة في سبيل التبشير بهذه الواقعة التي بها أتى الخلاص الى كل العالم.
اللافت في الكتاب المقدس ان الذي أقام يسوع من بين الأموات هو الله، أي الآب (أعمال 2 : 24، 3: 15، 4 :10 ...)، ونجد الشيء عينه عند الرسول بولس (رومية 4: 24). لكنّه ايضا، بحسب الرسول، الروح: "فإذا كان الروح الذي أقام يسوع من بين الأموات حالاّ فيكم، فالذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات يحيي ايضا أجسادكم الفانية بروحه الحالّ فيكم" (رومية 8: 11). الصحيح ايضا ان المسيح قد قام بقوته الذاتية، إذ يؤكد إنجيل لوقا ان المسيح قال بعد قيامته: "كُتب ان المسيح يتألم ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث" (24: 46)، والرسول بولس يكرر الأمر ذاته مشددا على أن "المسيح قد قام من بين الأموات" (1 كورنثوس 15: 20). لا تناقض في هذه الآيات إذا وضعناها في إطارها الثالوثي، فالتدبير الخلاصي عمل تمّ بمشيئة الآب والابن والروح القدس.
أن نؤمن بأن "المسيح قام" هذا يعني ايضا انه قام فينا، اي انه ممكّنُنا الغلبة على الشيطان والخطيئة وتاليا على الموت. فإذا قال الذهبي الفم في عظة الفصح ان "الحياة بزغت من القبر"، فطبيعيا هذا يعني عنده ان "لا ميت في القبر". حقيقتنا بعد قيامة المسيح، إن كنا واعين رفض الخطيئة، أننا دخلنا في الحياة الأبدية. هذه الحياة التي نتصوّر ان الأبرار ينالونها في الأخير قد أتت بها القيامة الى الآن.
عظة الفصح للقديس غريغوريوس اللاهوتي
هذه مقتطفات من العظة الاولى التي ألقاها القديس غريغوريوس بعد انتخابه اسقفا على نازيانز (آسيا الصغرى) سنة 362. كان القديس غريغوريوس قد اختار الحياة الرهبانية برفقة صديقه القديس باسيليوس الكبير، الا ان والده الذي كان اسقف نازيانز نفسها استدعاه ورسمه كاهنا ثم اسقفا. لم يرغب في الاسقفية في زمن تفاقم الآريوسية وعاد الى الدير لكنه رجع بعد اشهر الى مسؤوليته الاسقفية واستمر فيها حتى صار بطريرك القسطنطينية وانتصر على الآريوسية في المجمع المسكوني الثاني. نلاحظ من المقاطع التي ننشرها ان عددا من الصلوات التي نرتلها في العيد مأخوذة من عظات القديس غريغوريوس.
" اليوم يوم القيامة، فلنحتفل بالعيد ونقبّل بعضنا بعضا بقبلة السلام ونسمّ اخوةً الذين يكرهوننا وليس فقط الذين خدمونا وتألموا من اجلنا. لنصفح عن كل شيء في القيامة، انا اغفر لكم فرض المسؤولية علي وانتم اغفروا لي تأخري ... مُسحت سريا وتخلفت عن خدمة السر فترة تفحصت فيها نفسي، والآن اعود في هذا اليوم البهي الذي يساعدني لأتغلب على ترددي وضعفاتي. وارجو ان يجددني القائم من بين الاموات بالروح ويلبسني الانسان الجديد ويدفعني الى خليقته الجديدة عاملا جيدا وسيدا جيدا مستعدا للموت مع المسيح والقيام معه.
امس كنت مصلوبا مع المسيح، اليوم أُمجَّّد معه. أمس مت مع المسيح، اليوم احيا معه. أمس دُفنت مع المسيح، اليوم اخرج معه من القبر. لنقدّم بواكيرنا إلى الذي تألم وقام من اجلنا. أتظنون اني اتكلم عن الذهب والفضة والاقمشة والحجارة الكريمة؟ كلها مقتنيات ارضية، لا تخرج من الارض الا لتقع في اكثر الاحيان بين ايدي الغاشين عبيد المادة وامير هذا العالم. لنقدم للمسيح ذواتنا: هذه هي اثمن تقدمة في عيني الله والاقرب اليه. لنردّ الى صورته ما هو على شبهه. لنتعرف على عظمتنا ونمجّد مثالنا، لنفهم قوة هذا السر وسبب موت المسيح.
لنصر مثل المسيح بما ان المسيح صار مثلنا. لنصر آلهة من اجله بما انه صار انسانا من اجلنا. اخذ الاسوأ ليعطينا الأفضل. أفقر ذاته ليغنينا بفقره، اخذ صورة عبد لنحصل على الحرية، وضع نفسه ليرفعنا، تجرّب ليشهد انتصارنا، قبل الاهانة ليظللنا بالمجد، مات ليخلصنا. صعد الى السماء ليجذبنا اليه نحن الذين تمرغنا في الخطيئة.
لنقدّم كل شيء الى من اعطى ذاته فدية عنا. لن نعطي ابدا تقدمة اعظم من انفسنا ان فهمنا هذا السر وصرنا من اجله ما صاره من اجلنا".